ايــَّاكَ أن تتعمّدَ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى صحبه ومن والاه , وبعد
انّ الكذب المتعمّد على النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المنكرة والعظيمة ومن كبائر الذنوب الموجبة النار،، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم برواية الامامين البخاري ومسلم في الصحيحين : إنّ كذِباً عليَّ ليس ككذبِ على أحدٍ, مَن كذَبَ عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
وروى البخاري رحمه الله عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار
وروى الامام مسلم رحمه الله عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِينَ
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى تكفير مَن تعمّد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : فإن قيل : الكذب معصية , إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره والمعاصي , قد توعد عليها بالنار , فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين
الأول: أن الكذب عليه يُكفِّرُ مُتعمده عند بعض أهل العلم ، وهو الشيخ أبو محمد الجويني ، لكن ضعَّفهُ ابنه إمام الحرمين ومن بعده ، ومال ابن المنير إلى اختياره ، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله ، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى ، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك
الثاني : أن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كبيرة ، والكذب على سواه صغيره فافترقا ، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا ، أو طول إقامتهما سواء ، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم , فليتبوأ, على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره , إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد يعني في النار , مختص بالكافرين ، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه , وبين الكذب على غيره فقال : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول في هذه المسألة ، وذكر حكم من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة ، وحكم من كذب عليه في الرواية ، وحكم من روى حديثا يعلم أنه كذب ، ومال رحمه الله إلى القول بكفر من كذب عليه مشافهة ، قال في الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم, بعد ذكر حديث بريدة رضي الله عنه ولفظه : كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حلة فقال إن رسول الله كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ، ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها ، فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم: كذب عدو الله , ثم أرسل رجلا فقال له عليه الصلاة والسلام: إن وجدته حيا وما أراك تجده حيا فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فأحرقه بالنار , قال: فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي متعمدا , قال شيخ الإسلام رحمه الله : هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة
ثم قال رحمه الله : وللناس في هذا الحديث قولان
الأول : الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك ، قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني ، حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني رحمهم الله: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من الخارج , وهؤلاء قصدوا إفساده من الداخل , فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله ، والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن ، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له
ووجه هذا القول أن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم هو كذب على الله عزوجل ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم
فإنّ ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله تعالى به ، ويجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله عزوجل، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله تبارك وتعالى به ، ومن كذّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره ، فهو كمن كذب خبر الله عزوجل , وامتنع من التزام أمره، ومعلوم أن من كذب على الله سبحانه وتعالى بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله تعالى خبرا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم ، فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله .
يُبين ذلك أن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بمنزلة التكذيب له ، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه
بل ربما كان الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم أعظم إثما من المكذّب له ، ولهذا بدأ الله عزوجل به ، كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدّق بخبره , فإذا كان الكاذب مثل المكذّب أو أعظم، والكاذب على الله عزوجل كالمكذّب له ، فالكاذب على الرسول صلى الله عليه وسلم كالمكذب له , يوضح ذلك أنّ تكذيبه نوع من الكذب
فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق ، وذلك إبطال لدين الله تعالى، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافرا لما تضمنه من إبطال رسالة الله عزوجل ودينه ، والكاذب عليه صلى الله عليه وسلم, يُدخل في دينه ما ليس منه عمدا ، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر على أنه دين الله عزوجل وهو ليس كذلك, كونه كذب في الرواية. والزيادة في الدين كالنقص منه, ولا فرق أبدا بين من يُكذب بآية من القرآن أو يضيف كلاما يزعم أنه سورة من القران عامدا لذلك, وأيضا فإن تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ستهزاء واستخفافا؛ كأن يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به ، بل وقد لا يجوز الأمر بها ، وهذه نسبة له إلى السفه أو أنه يخبر بأشياء باطلة ، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح , ,ايضل لو زعم زاعم أن الله عزوجل فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو صلاة سادسة زائدة ، ونحو ذلك ، أو أنه حرّم الخبز واللحم، عالما بكذب نفسه ، فقد كفر بالاتفاق
ومن زعم متعمدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب شيئا لم يوجبه ، أو حرم شيئا لم يحرمه ، فقد كذب على الله عزوجل، كما كذب عليه الأول ، وزاد عليه بأن صرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأنه أفتى القائل - لم يقله اجتهادا واستنباطا. وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله عزوجل فهو كالمتعمد لتكذيب الله تبارك وتعالى وأسوا حالا ، ولا يخفى أنه من كذب على من يجب تعظيمه ، فإنه مستخف به مستهين بحرمته
وأيضا ، فإن الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم لابد أن يُشينه بالكذب عليه وينتقصه بذلك ، ومعلوم أنه لو كذب عليه صلى الله عليه وسلم كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: كان يتعلم مني , أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة ، كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنه إما أن يأثر عنه أمرا أو خبرا أو فعلا ، فإن أثر عنه أمرا لم يأمر به ، فقد زاد في شريعته ، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به؛ لأنه لو كان كذلك لأمر به ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
ما تركت من شيءٍ يُقربكم إلى الجنة إلا أمرتُكم به, ولا من شيءٍ يُبعدكم عن النار إلا نهيتكُم عنه
فإذا لم يأمر به، فالأمر به غير جائز منه ، فمن روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد أمر به ، فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به ، وذلك نسبة له إلى السفه
وكذلك إن نقل عنه صلى الله عليه وسلم خبرا ، فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به ، لأن الله تعالى قد أكمل الدين ، فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به . وكذلك الفعل الذي ينقله عنه صلى الله عليه وسلم كاذبا فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجح ، لفعله ، فإذا لم يفعله فترْكُهُ أولى
فحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله ، فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله ، وما فعله ففعله أكمل من تركه ، فإذا كذب الرجل عليه متعمدا أو أخبر عنه بما لم يكن ، فذلك الذي أخبر به عنه نقص بالنسبة إليه ؛ إذ لو كان كمالا لوجد منه ، ومن انتقص النبي صلى الله عليه وسلم بشيءٍ فقد كفر .
واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه ، لكن يتوجه أن يُفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة ، وبين الذي يكذب عليه بواسطة ، مثل أن يقول : حدثني فلان بن فلان عنه بكذا ، فإن هذا إنما كذب على ذلك الرجل ونسب إليه ذلك الحديث ، فأما إن قال : هذا الحديث صحيح أو ثبت عنه أنه قال ذلك ، عالما بأنه كذب ، فهذا قد كذب عليه صلى الله عليه وسلم، وأما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر ، لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم ، فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد قتل من كذب عليه ، وعجل عقوبته ليكون ذلك عاصما من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين ونحوهم
وأما من روى حديثا يعلم أنه كذب ، فهذا حرام كما صح عنه أنه قال
من روى عني حديثا يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين
لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدثه به ، لكن لعلمه بأن شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية ، فصار بمنزلة أن يشهد على إقرار أو شهادة أو عقد وهو يعلم أن ذلك باطل ، فهذه الشهادة حرام ، لكنه ليس بشاهد زور
القول الثاني : أن الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم تغلظ عقوبته ، لكن لا يكفر ، ولا يجوز قتله ؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة ، وليس هذا منها ، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له ، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأن لم يكن الكذب عليه متضمنا لعيب ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاما يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة ، مثل حديث , عرق الخيل , ونحوه من الترهات ، فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهر ، ولا ريب أنه كافر حلال الدم. وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقا فقتله لذلك لا للكذب ، وهذا الجواب ليس بشيء
والله تعالى أعلى وأعلم