فارس الاقصى مشرف
عدد المساهمات : 176 تاريخ التسجيل : 09/02/2012
| موضوع: الطريق إلى المطابقة بين العقيدة والسلوك الخميس أبريل 19, 2012 10:47 pm | |
| الطريق إلى المطابقة بين العقيدة والسلوك أحمد إبراهيم خضر
يقول الإمام "ابن الجوزي" (508 - 597 هـ) واصِفًا حال المسلمين في عصره: "تأمَّلْتُ الأرض ومَن عليها بِعَين فِكْري، فرأيتُ خرابها أكثر من عُمرانها، ثم نظرت في المعمور، فوجدتُ الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالنسبة إلى الكفار. ثم تأمَّلْتُ المسلمين فرأيت المكاسب قد شغَلَتْ جُمهورهم عن الرَّازق، وأعرضت بهم عن العلم الدَّالِّ عليه؛ فالسُّلطان مشغول بالأمر والنَّهي واللَّذَّات العارضة له، ولا يلقاه أحدٌ بموعظة، بل بالمِدْحة التي تقوِّي عنده هوى النَّفس، أما جنود السُّلطان فجمهورهم في سُكْر الهوى وزينة الدُّنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يُؤْلِمهم ذنب، ولا يَنْزعجون من لبس حرير أو شرب خمر، والظُّلم معهم كالطبع. وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى، ما أكثر تقلُّبَهم في الأنجاس، وتهوينهم لأمر الصلوات! ورُبَّما صلَّت المرأة منهن قاعدة. ثم نظرت إلى التُّجَّار، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت، وصار الرِّبا في معاملاتهم فاشيًا، فلا يبالي أحدهم من أين تحصل له الدنيا، وهم في باب الزكاة مُفَرِّطون، ولا يستوحشون من تركها، إلاَّ من عصم الله. ثم نظرتُ في أرباب المعاش، فوجدت الغِشَّ في معاملاتهم عامًّا، والتَّطفيف والبَخْس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل، ورأيت عامَّة مَن له ولد، يشغله ببعض هذه الأشغال؛ طلبًا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدَّب به. ثم نظرت في أحوال النِّساء، فرأيتُهُنَّ قليلات الدِّين، عظيمات الجهل، ما عندهنَّ من الآخرة خير إلاَّ مَن عصم الله، فقلتُ: واعجبًا! فمَن بقي لخدمة الله - عز وجل - ومعرفته؟ فنظرتُ إلى العلماء، والمُتَعلِّمين، والعُبَّاد، والمتزهِّدين، فتأمَّلت العُبَّاد والمتزهِّدين، فرأيت جمهورهم يتعبَّد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده، وكثرة أتباعه، حتى لو أنَّ أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل؛ لِئَلاَّ ينكسر جاهه، ثم تترقَّى بهم رتبة النَّاموس إلى ألاَّ يعودوا مريضًا، ولا يشهدوا جنازة، إلاَّ أن يكون عظيم القَدْر عندهم، ولا يتزاورون، بل ربما ضنَّ بعضهم على بعض بلقاء، فقد صارت النواميس كالأوثان، يعبدونها ولا يعلمون، وفيهم من يُقْدِم على الفتوى وهو جاهل، ثم يعيبون على العلماء لحِرْصِهم على الدُّنيا، ولا يعلمون أنَّ المذموم من الدنيا ما هم فيه، لا تناول المباحات. ثم تأمَّلتُ المتعلِّمين، فرأيتُ القليل من المتعلمين عليه أمَارة النَّجابة؛ لأنَّ أمارة النجابة طلَبُ العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يُصيِّره وسيلة للكسب؛ إمَّا ليأخذ به قضاء مكان، أو ليصير به قاضِيَ بلد، أو قدْرَ ما يتميَّز به عن أبناء جِنْسِه. ثم تأمَّلتُ العلماء، فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يُؤْثِر ما يصدُّه العلم عنه، ويُقْبِل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد ذَوْقَ معاملة الله - سبحانه -، وإنما هِمَّتُه أن يُحدِّث وحَسْب". يحدِّد الإمام "ابن القَيِّم" السَّببَ الرئيس وراء كل هذه السلوكيات البعيدة عن الدِّين، فيقول: "إن الناس يؤمنون بالإسلام، لكنَّ إيمانهم به هو إيمان مُجْمَل يُتَرجمونه في ألفاظ، ولا يعبِّرون عنه في حقائق"، قال - تعالى -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]. يقول "ابن القيم": الحقيقة هي أنَّ الإيمان الذي عند أكثر الناس هو إيمان مُجْمَل، يمكن تفصيل أنواعه على النحو التالي: 1- بعض الناس حَظُّهم من الإيمان هو الإيمان بأن الله - تعالى - هو الخالِقُ للسَّماوات والأرض وما بينهما؛ (وهذا الأمر لم يكن يُنكِره عُبَّاد الأصنام من قريش). 2- بعض الناس حظهم من الإيمان هو التكلُّم بالشهادتين، سواء أكان مع ذلك عمل أمْ لا، وسواء صدَّق قلبه ذلك أو لم يصدِّقه. 3- بعض الناس يؤمنون بأن الله - تعالى - خلق السماوات والأرض، وأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، ولكنَّه قد لا يُقِرُّ ذلك بلسانه ولا يعمل شيئًا، بل قد يَسُبُّ الله ورسوله ويأتي بكل الكبائر، وهو يعتقد أنه طالما آمن بوحدانية الله ونبوَّة رسوله، فهو مؤمن. 4- بعض الناس يَدَّعون الإيمان في الوقت الذي يجحدون صفات الله –تعالى-؛ من عُلُوِّه على عرشه، وتكلُّمِه بكلماته وكتبه، وسمعه وبصره، ومشيئته وإرادته، وحُبِّه وبغضه، ويساند آراءَ الحَيارى والمكذِّبين والمُشَكِّكين. 5- بعض الناس يؤمنون بعبادة الله بحكم أذواقهم وما يحبُّونه وما تهوى أنفسهم، بغير تقيُّد بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6- الإيمان عند بعض الناس يكون حسب ما وجدوا عليه آباءهم أيًّا كان، والاعتقاد بأن ما كانوا عليه هو الإيمان الحقُّ. 7- الإيمان عند بعض الناس هو مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، وطَلاقة الوجه وإحسان الظَّنِّ بكلِّ أحد. 8- الإيمان عند بعض الناس هو الزُّهد في الدنيا وتفريغ القلب منها، ويعتبر البعض أنَّ مثل هؤلاء الناس هم سادة أهل الإيمان، حتى وإن كانوا منسلخين من الإيمان عِلْمًا وعمَلاً. 9 - الإيمان عند بعض الناس هو مُجرَّد العلم وإن لم يقترن بعمل. من هنا يمكن القول بأنَّ السبب الأساس وراء انحراف الناس عن الدِّين، وعدم مطابقة سلوكياتهم لعقيدتهم هو أنهم لا يعرفون حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، فمِنهم مَن جعل الإيمان بما هو نقيضه، وما لا يَدخل فيه، ومنهم من جعله أحد شروطه فقط، ومنهم من اشتَرَط فيه ما ليس منه. الإيمان الحقيقي كما يقول "ابن القيم" وراء ذلك كلِّه: "إنه حقيقة مركَّبةٌ من معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتصديق به عقدًا، والإقرار به نطقًا، والانقياد له محَبَّة وخضوعًا، ومتابعته والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وعدم الالتفات إلى ما جاء به غيره، وأن يكون كماله في الحُبِّ في الله والبُغْض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحْدَه إلهَه ومعبودَه، وأن يُحِبَّ من أحبَّ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، إنه الإيمان القائم على الحقائق لا الألفاظ. يقول الشيخ "أبو المعالي الألوسي": "إن مجرَّد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها، ولا عمَلٍ بمقتضاها لا يكون به المكلَّفُ مسلمًا، كما أن شهادة أن محمدًا رسول الله تستدعي وتستلزم وتقتضي تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية؛ من الحُبِّ، والتوقير، والنُّصرة، والمتابعة، والطاعة، وتقديم سُنَّتِه - صلى الله عليه وسلم - على كل سُنَّة وقول، والوقوف معها حيث وقَفَتْ، والانتهاء حيث انتهَتْ، في أصول الدِّين وفروعه، باطنه وظاهره، خَفِيِّه وجَلِيِّه، كليِّه وجزئيه". ربط الإمام "ابن القيم" - كما نتصوَّر - بين مسألة المطابقة بين العقيدة والسلوك، وبين مسألة ظاهر الإيمان وباطنه، فيقول في ذلك: "الإيمان له ظاهر وباطن: الظاهر من الدِّين لا بُدَّ له من باطن يُحقِّقه ويصدقه ويوافقه، وباطن الدين لا بُدَّ له من ظاهر يحققه ويصدقه ويوافقه. أما ظاهر الإيمان، فهو قول اللِّسان وعمل الجوارح، وأما باطنه فهو تصديق القلب وانقياده ومحَبَّته لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينفع ظاهرٌ لا باطن له، حتى وإن أدَّى إلى حَقْن الدِّماء وحماية الأموال والناس، ولا يُجْزِئ باطنٌ لا ظاهر له إلاَّ إذا تعذَّر بعجز أو إكراه، أو خوف أو هلاك... ومَن قام بظاهر الدِّين من غير تصديق بالباطن، فهو منافق، ومن ادَّعى باطنًا يُخالف ظاهرًا، فهو كافر ومنافق، بل لا بدَّ أن يحقق باطن الدين ظاهره ويصدقه ويوافقه، ولا بُدَّ أن يوافق ظاهرُ الدين باطِنَه ويصدِّقَه ويحققه، فكما أنَّ للإنسان روحًا وبدَنًا متَّفِقَين فلا بُدَّ لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتَّفقان". ويرى المُفَكِّرون الإسلاميُّون المعاصرون أنَّ أمر مطابقة ظاهر الإيمان بباطنه، أو ما يسمُّونه "المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك"، ليس هيِّنًا ولا طريقا مُعبَّدًا، وأنه في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وأن السبيل الوحيد لتحقيق هذه المطابقة هو الصِّلة بالله، والاستعانة بِهَدْيه، واستمداد القوة منه. يقول المفكِّرون المسلمون: "إن ملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرًا ما تَنْأَى بالفرد في واقعه عمَّا يعتقد في ضميره، أو عمَّا يدعو إليه غيره، والفرد الفاني ما لم يَتَّصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوَّته؛ لأنَّ قُوَى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه، وقد يغالبها مرَّة ومرة، ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضِيَه وحاضره ومستقبله، فأمَّا وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد، فهو قَوِيٌّ وأقوى من كل قوي؛ قوي على شهوته وضعفه، وعلى ضرورته واضطراراته، وعلى ذَوي القوة الذين يُواجهونه"
| |
|